مربكة هذه الكتابة، نخوض غمارها ونحن نجهلها، ونغوص فيها ولم نسبر غورها، فنكون كمن يتعذر بأن البحر عميق، حين يغرق على الساحل!
الكتابة فن الاستماع لصوت العقل، ولهدير المشاعر، ثم محاولة التعبير عنهما بالأسلوب الأمثل.
والكتابة احساس وليست مجرد قلم، كثيرون من يملكون الأقلام، ويفتقدون الاحساس.
وهي مزاج، إلهام، بعضٌ من وحي. ولأن الوحي لا يُستجدى؛ فنحن لا نمتهن الكتابة، بل هي من تمتهننا. ولا نكتب متى شئنا، بل حين تستنطقنا، وحين نكون مضطرين لذلك. وهي بوحٌ ومتنفس، زفيرٌ آخر لكن بإحساس لا بالهواء. وهمٌّ يوشوشُ به قلمٌ لورقة.
والكتابةٌ حياةٌ أخرى، فكم من كاتبٍ مات وبقيت كلماته خالدة بعده. فهي بقاءٌ للفكر بعد زوال الجسد.
وهي ديمومة، لأن الكلام في الهواء يتبعثر، لكنه على الأوراق باقٍ.
وهي فضاء حرية، فالكلمة المكتوبة لها أجنحة تطير بها. وهي فن التغلب على ما لا يقال، حين تكون جرأة، فتصور ما تعذر النطق به، وكأنها لسان من لا لسان له.
ولكنها أيضاً فضيحة، فمن لم يفضحه الأنين، فضحه التدوين.
وهي عورة، لأنها هتكٌ لأستار الفكر، ورفعٌ لحجاب العقل، فينكشف أمام من يقرأ.
وهي أحياناً بكاء، بالحبر لا بالدموع.
ولم تكن الكتابة يوماً ملء فراغ، أو هواية، بل هي صنعة وحرفة.
ولا يكفي أن تكون مُطلّعاً، أو مثقفاً، أو حافظاً، أو قارئاً نهماً، ليكون قلمك سيّالاً وخيالك خصباً. فالكتابة موهبةٌ وهبةٌ من الله يمنحها من يشاء، ولا تختلف أبداً عن موهبة الرسم مثلاً أو الشعر أو الخط، وهي مثلهم تنمو بالتدرب وتزهو بالممارسة، بشرط أن تكون بذرتها موجودة سلفاً.
والكتابة محرجة، فلا ينفع ادعاؤها ولا الانتحال، ومن يجرؤ عليها مع افتقاره لملكَتِها فسرعان ما تفضحهُ حروفه، وتشي به كلماته، وتُعريه سطوره، وتُقّزمهُ نصوصه، وتُقدمهُ مؤلفاته عاري الفكر مُتجرد الأسلوب، مرتعش الحرف، مهزوز الأفكار.
واللبيب من لزِم جانب السلامة منها وقنع أن يكون على الضفة الأخرى من النهر، مكتفياً أن يكون “قارئاً جيداً”، مع يقيني أن ذلك ليس محض اكتفاء، بل هو سمو، فمرتبة القراءة تفوق مرتبة الكتابة أضعافاً.