أصنافُ المسحوقين من البشر!

 

 

اعتاد أن يرى أباه يأتي من آخر الطريق المنحدر، أفول الشمس كان موعده الذي لم يخلفه يوماً، كان يتهادى ببطء السنين التي يحملها على عاتقه، ويتمايل تمايل المتألم من قدميه. يسير حاملاً عدته بيمناه، وسمكة كل يوم بيده اليسرى. تلك السمكة التي هي تقريباً وجبتهم الوحيدة، والتي ينازع الطفل فيها اللهفة والملل في آن. يصل أخيراً إلى البيت فيركض الصغير لمعانقة أبيه بعدما رمى لعبتهُ على الأرض، هي ليست لعبة حقاً، بل مجرد وريقات قد شُكلت على هيئة شيء لم يعرف ماهو، لكنه كان يحبها.
يحمل عن أبيه عدته ويدخلان المنزل، “هذا الصندوق ثقيل، يبدو أنه يحوي حجارة أو ما شابه. ماذا يفعل أبي بالحجارة؟”
تقبل الأم فتأخذ السمكة الهزيلة وتلقيها في تلك المقلاة المتهالكة، هو تعبٌ وإن لم تلحق عليه فقد يستغرق في نومه قبل أن يأكل. تنظر إليه بعين العطف، “لم تعد شاباً يا زوجي العزيز، خدوش السنون باتت واضحةً على ملامحك، أما شعرك فغدا الضياء فيه أكثر من الظلمة”.
الطفل فرحٌ بأبيه، ويعبر عن ذلك باللعب حوله والقفز والركض. هل الأطفال يحبون أبائهم لذواتهم أم يحبون حاجتهم إليهم؟ ..
ذاك الرجل لم يعد رجلاً، هو الآن أشبهُ بحبلِ إنقاذ، أو طوقُ نجاةٍ لهذهِ العائلة. الفقر والكدُّ أنسياه أن يكون إنساناً له مطالبُ ورغبات. هي التضحية التي لا خيار له فيها، والتي فُرضت عليه حين صار زوجاً، وأباً.
أما المرأةُ فهي كائن لا يملك مصيره، معلقةٌ بمصير زوجها وتدورُ في فلكه، إن عاش عاشت، وإن اغتنى بانت النعمةُ عليها، وإن عضهُ الفقرُ بنابهِ فهي من تتألم، وإن مات رقدت في القبر جواره!
وذلك الصبي، اللاهي العابث، هو مثالٌ لأولئك البشر الذين لا يعبأون بالدنيا وهي لا تعبأُ بهم، يعيشونها للمتعة فقط، وهي بدورها لا تُلقي لهم بالاً. هؤلاء لا يتذكرون أمسهم، ولا يهتمون بغدهم، بل يعيشون يومهم وكأن الدنيا قد عقدت هدنةً معهم؛ فلا تؤذيهم ولا تحيك لهم المكائد. وهم ذاتهم الذين سرعان ما يُصدمون فيها، ثم يبكون منها طويلاً.

ما سبق؛ أصنافُ المسحوقين من البشر!

مشاركة التدوينة:

التعليقات: 2

Average
5 Based On 2

أحدث التعليقات

تصنيفات

الأرشيف